مساهمة العضوة نورة الادريسي:
يتميز الوضع البشري بالتعقيد وصعوبة إدراك كنهه ،وباستحالة التحكم فيه ،فالإنسان بقي على الدوام موضوعا خصبا للفلسفة والتي قامت بدراسة أبعاده الانطولوجية المختلفة :الفردية والجماعية والتاريخية، لذلك ليس بغريب أن تقف عاجزة عن إعطاء تعريف للإنسان ،فلو أردنا صياغة تعريف جامع مانع لكان علينا أن نصنع سريرا يشبه سرير "بروكست" وهذا يبين لنا بجلاء أن كل تعريف يبقى ناقصا إن لم يكن مشوها ،ومن تم فالجهد المبذول سيركز على تمظهرات هذا الوجود وأهمها الوجود الفردي ،والنص الذي بين أيدينا والمطلوب منا تحليله ومناقشته يتناول مفهوم الشخص في علاقته بالهوية أي الخاصية التي بموجبها تطابق الذات ذاتها أي تكون هي هي ،وبالتالي فالسؤال الإشكالي الذي يحاول النص الإجابة هو :
ما أساس هوية الأنا ؟ وماهو الشيء الذي يبقي في أناي تابتا لايتغير ولاينفصل عني إلا في النوم أو الموت؟
يجيب النص بأطروحة مفادها أن هوية الشخص تتمثل في الإدراك القائم على التجربة الحسية والمزود للعقل بمعطيات العالم الخارجي ،وهذا الموقف يذكرنا بالمدرسة التجريبية مع كل من جون لوك ودافييد هيوم وبالتأكيد فسنعمد خلال تحليلنا ومناقشتنا على التذكير بهذه المدرسة .لكن قبل دلك لابد من تفكيك الإشكالية إلى أسئلة فرعية ستوجه إجابتنا وستحيلنا إلى إمكانيات أخرى للإجابة .
إذن كيف يتحدد الشخص ؟هل من أساس ثابث يجعل الشخص شخصا أي هو هو لايتغير رغم تغير الزمان والمكان ؟ ألا يحتمل أن يكون هذا الأساس متغيرا نتيجة عوامل نفسية وخارجية ذلك أن الإنسان ذات تتجاذبها حاجات ورغبات خفية من جهة وذات يتكلم بها أكثر من لسان أي ذات جماعية؟
النص صريح في التأكيد على أن مايميز الهوية الشخصية هو الإدراك الحسي وينطلق صاحب النص من تجربته الخاصة ،فهو ينفتح دائما على إدراك خاص أو على إدراك للحرارة أو البرودة ،الضوء أو الظل ،الحب أو الكراهية ،الألم أو المتعة ، أي مايشكل إحساسه ،وبالتالي فألانا لايستطيع أن يرى شيئا غير الإدراك لدرجة انه عندما تنفصل الأنا عن الإدراك ومثال ذلك النوم أو الموت يصبح الإنسان عدما أي لاشيء ،غير موجود ،فاقدا للوعي ، إذن الهوية تتحدد في الإدراك الحسي ومن تم فمعارفنا ستختلف تبعا لهذا الإدراك الذي يتميز به كل أنا .
ولتعزيز أطروحته استعمل صاحب النص بنية مفاهيمية فلسفية قوية كالأنا والذي يمثل حقيقة الإنسان الثابتة والحاملة لكل الحالات النفسية والفكرية و يشير اللفظ أيضا إلى الجانب الواعي في شخصية الإنسان ،كما وظف مفهوم الهوية والإدراك وقد أتينا على تعريفها في التقديم ،وكذا مفهوم الوعي والذي يشير إلى مجموع العمليات الشعورية التي تمكن الذات من إدراك مباشر لذاتها ولما تقوم به ولما يحيط بها ، كل ذلك كان بهدف إثبات حقيقة هوية الأنا وربطه بالإدراك الحسي وليس كما زعم الفلاسفة الذين يتخيلون أن الوعي ملازم لهوية الشخص.
لذلك يلتجئ النص في توضيح أطروحته إلى بنية حجاجية متنوعة كآلية النقد حيث أشار في بداية النص إلى الفلاسفة الذين يتخيلون بأننا نمتلك في كل لحظة الوعي الخاص الذي نسميه الأنا ،ويرى من جهته أننا نمتلك فقط الإدراك الحسي ،وقد حاول صاحب النص أن يقدم لنا من خلال الآلية الثانية أمثلة مختلفة لهذه اللإدراكات (الضوء ،الظل- الحرارة ،البرودة-الحب ،الكراهية ...) ،وقد نفى في آلية أخرى تواجد الذات وإمساكها أو رؤيتها من دون إدراك ،ومن تم فصاحب النص يفسر ويقدم شروحات تبين لنا صعوبة انفصال الإحساس عن الذات بل استحالته وإلا أضحى الإنسان عدما أي غير موجود.
وإلى جانب هذه الآليات الحجاجية وظف صاحب النص بنية منطقية ( من جهتي فإنني... وبذلك فإنني...فعندما...فإنني...)كما استعمل أدوات لغوية لإثبات أطروحته حول هوية الشخص ( استعماله لجمل اسمية وحرف التوكيد إن...).
وهكذا فقيمة النص تكمن في كونه أراد أن يؤسس لما يشكل الأنا أو الشخص بصفة دائمة مادام الإنسان حيا ويقظا ،إذ لايمكن للإنسان أن يحس أو يدرك إلا في حالة وعيه ،ومن تم تكوين معرفة خاصة به فالإنسان عندما يولد يكون عبارة عن صفحة بيضاء وعن طريق إدراكاته الحسية المبثوتة في بالقوة تتكون معرفته .والمعرفة الحاصلة اليوم إنما أنشأت منذ الأزل انطلاقا من أوليات الحس.
إن هذا الموقف يحيلنا إلى المدرسة التجريبية خاصة مع جون لوك الذي يرى أن مايجعل الشخص " هو نفسه" عبر أمكنة وأزمنة مختلفة، هو ذلك الوعي أو المعرفة التي تصاحب مختلف أفعاله وحالاته الشعورية من شم وتذوق وسمع وإحساس وإرادة، تضاف إليها الذاكرة التي تربط الخبرات الشعورية الماضية بالخبرة الحالية، مما يعطي لهذا الوعي استمرارية في الزمان .
"إذن فلوك" و مثله "ديكارت" يؤكدان بأن الشخص هو ذلك الكائن الذي يحس ويتذكر و -يضيف التجريبي لوك- يشم ويتذوق!
ولكنهما يختلفان فيما يخص وجود جوهر قائم بذاته يسند هذا الوعي وهذه الاستمرارية التي يستشعرها الفرد؛، والواقع أن " الجوهر المفكر" -من وجهة نظر المحاكمة الحسية- كينونة ميتافيزيقية لايسع لوك قبولها انسجاما مع نزعته التجريبية التي لاتقر لشيء بصفة الواقعية والحقيقة مالم يكن إحساسا أو مستنبطا من إحساس،
وباختصار فالهوية الشخصية تكمن في فعل الوعي، وعندما يتعلق الأمر بالماضي يصبح الوعي ذاكرة بكل بساطة، وكل هذا لكي يتجنب لوك القول بوجود جوهر مفكر، أي أن الهوية لاتقوم في أي جوهر مادي كان أو عقلي، ولاتستمر إلا مادام هذا الوعي مستمرا .
لكن شوبنهاور سيرفض كل ذلك وسيعتبر أن ما يمكن أن يحدد هوية الشخص ليس الإحساس أو الوعي ولا يمكنه أن يكون كذلك،ما دام الوعي كامتداد في الماضي يمكن أن ينعدم أو يتقطع إذا ما فقدت الذاكرة أو جزء منها بفعل النسيان أو المرض أو إصابة في المخ وكذا الشيخوخة. فما يشكل جوهر الإنسان في نظر شوبنهاور هو الإرادة.فالشخص يعبر من خلال أفعاله و أفكاره عن إرادته. فالإرادة ليست وسيلة للعقل ،بل العقل نفسه آلة للإرادة.فكل ما يعيشه الإنسان من مظاهر الحضارة ما هو إلا تجلي لإرادة الإنسان.فالشخص بالنسبة لشوبنهاور ليس ذاتا عارفة و لا وعيا.و إنما هو إرادة يخدمها العقل.
نصل إلى القول مع صاحب النص ومع ديكارت وجون لوك وكذا شوبنهاور إلى أن هوية الإنسان ثابتة لا تتغير فإما أنها الإدراك الحسي أو الجوهر المفكر أو الإحساس المقرون بالفكر وبالذاكرة أو الإرادة.
غير أن المدرسة التحليل النفسي تحمل تصورا مغايرا للهوية الشخصية ففرويد يرى أن شخصية الإنسان هي عبارة عن صراع دائم بين مجموعة من القوى: العقل (الأنا) والغرائز (الهو) والمثل الأخلاقية (الأنا الأعلى) وأيضا ضغوط الواقع الاجتماعي، لذلك فالأنا هو نتاج للتوازن والتوفيق بين هذه القوى مثلما هو أداة تحقيق هذا التوازن والتوفيق، لذلك فوحدة الشخص وحدة دينامية عسيرة ولا متناهية التحقق.
كما أن التوجه الاجتماعي يبين أن هوية الإنسان هي هوية اجتماعية بالأساس حاملة بشكل تدريجي لصفات وخصائص المجتمع .
ومن تم فهوية الشخص متغيرة مع فرويد وسائرة في طريق التشخصن مع المدرسة الاجتماعية أي أنها هوية متفاعلة مع ماهو داخلي وخارجي.
وخلاصة تحليلنا ومناقشتنا للنص يؤكد بجلاء على أهمية الحوار الذي قام بين الفلاسفة بين من يجعل الهوية ثابتة (ديكارت – لوك – شوبنهاور – صاحب النص) ومن ينظر إلى أنها صراع وتفاعل أساسه نفسي واجتماعي(فرويد – الموقف الاجتماعي ).
من جهتي أرى انه يصعب تبيان وتحديد مكون الهوية في ماذكر ،بل أجده في الفعل الأخلاقي الإنساني فالإنسان يقوم بسلوكات صائبة وخاطئة ،قبيحة وجميلة ... وهذه السلوكات هي التي تميزه عن غيره من الكائنات بمعنى التي تشكل ماهيته ولهذا الأمر علاقة بالقيمة التي يكتسبها الكائن البشري ،وهو مايدعونا لطرح السؤال التالي: من أين يكتسب الشخص قيمته ؟هل من ذاته أم من مجتمعه أم من خاصية استشعاره للحياة التي يعيشها ؟